تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧٢٨

ومغاربها ، فانظروا ما هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء ، فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها ، فمرّ النفر الذين أخذوا نحو تهامة وهو وأصحابه بنخلة قاصدين سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر ، فلما سمعوا القرآن استمعوا له قالوا : هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء» (١). وهل هذا الاستماع هو المذكور في الأحقاف أو غيره؟ قال أبو حيان : المشهور أنه هو. وقيل : غيره ، والجنّ الذين أتوه جنّ نصيبين والذين أتوه بنخلة جنّ نينوى ، والسورة التي استمعوها قال عكرمة العلق ، وقيل : الرحمن ، ولم يذكر هنا ولا في الأحقاف أنه رآهم.

وعن ابن مسعود أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أمرت أن أتلو القرآن على الجنّ ، فمن يذهب؟ فسكتوا ثم قال الثانية ، فسكتوا ثم قال الثالثة ، فقلت : أنا أذهب معك يا رسول الله. قال : فانطلق حتى جاء الحجون عند شعب بن أبي ذئب خط عليّ خطا فقال : لا تجاوزه ثم مضى إلى الحجون فانحدروا عليه أمثال الحجل كأنهم رجال الزط ـ قال ابن الأثير في النهاية : الزط قوم من السودان والهنود ، وكأنّ وجوههم المكاكي ، يقرعون في دفوفهم كما تقرع النسوة في دفوفها حتى غشوه ـ فغاب عن بصري فقمت فأومأ إليّ بيده أن اجلس ثم تلا القرآن فلم يزل صوته يرتفع ولصقوا بالأرض حتى صرت لا أراهم» (٢). وفي رواية أخرى «قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من أنت؟ قال : أنا نبي. قالوا : فمن يشهد لك على ذلك ، فقال : هذه الشجرة تعالي يا شجرة ، فجاءت تجرّ عروقها ، لها قعاقع حتى انتصبت بين يديه ، فقال : على ماذا تشهدين فيّ؟ قالت : أشهد أنك رسول الله ، قال : اذهبي ، فرجعت كما جاءت حتى صارت كما كانت. قال ابن مسعود : فلما عاد إليّ قال : أردت أن تأتيني قلت : نعم يا رسول الله. قال : ما كان ذلك لك هؤلاء الجنّ أتوا يستمعون القرآن ثم ولوا إلى قومهم منذرين فسألوني الزاد فزوّدتهم العظم والبعر فلا يستطيبن ـ أي يستنجي ـ أحدكم بعظم ولا بعر» (٣) وفي رواية : «أنه عليه الصلاة والسلام لما فرغ وضع رأسه على حجر ابن مسعود فرقد ثم استيقظ ، فقال : هل من وضوء؟ قال : لا إلا أنّ معي إداوة نبيذ فقال : هل هو إلا تمر وماء فتوضأ منه» (٤).

قال الرازي : وطريق الجمع بين رواية ابن عباس ورواية ابن مسعود من وجوه :

أحدها : لعل ما ذكره ابن عباس وقع أوّلا ، فأوحى الله تعالى إليه بهذه السورة ، ثم أمر بالخروج إليهم بعد ذلك كما روي عن ابن مسعود أي فالواقعة متعدّدة.

ثانيها : أنها واقعة واحدة إلا أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما رآهم ولا عرف ماذا قالوا ولا أيّ شيء فعلوا ، فالله تعالى أوحى إليه أنه كان كذا وكذا وفعلوا كذا وكذا.

ثالثها : أنها كانت واحدة وأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رآهم وسمع كلامهم وهم آمنوا به ثم رجعوا إلى قومهم

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأذان حديث ٧٧٣ ، ومسلم في الصلاة حديث ٤٤٩ ، والترمذي في تفسير القرآن حديث ٣٣٢٣.

(٢) أخرجه بنحوه الترمذي في الأدب باب ٧٦ ، والدارمي في المقدمة باب ٢ ، وأحمد في المسند ١ / ٣٩٩ ، ٤٥٥ ، ٤٥٨.

(٣) أخرجه أحمد في المسند ١ / ٤٥٨ ، ٤٥٩.

(٤) أخرجه البغوي في تفسيره ٥ / ٢٧١ ، والقرطبي في تفسيره ١٩ / ٥.

٤٤١

قالوا لهم على سبيل الحكاية (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) وكان كذا وكذا فأوحى الله تعالى إلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما قالوه لقومهم.

قال ابن عربي : ابن مسعود أعرف من ابن عباس لأنه شاهده وابن عباس سمعه وليس الخبر كالمعاينة. وقال القرطبي : إنّ الجنّ أتوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم دفعتين إحداهما بمكة وهي التي ذكرها ابن مسعود ، والثانية : بنخلة وهي التي ذكرها ابن عباس. وقال البيهقي : الذي حكاه ابن مسعود إنما هو في أوّل ما سمعت الجنّ قراءة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلمت بحاله ، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم كما حكاه ابن عباس ، ثم أتاه داعي الجنّ مرّة أخرى فذهب معه وقرأ عليهم القرآن كما حكاه ابن مسعود.

وقال القشيري : لما رجم إبليس بالشهب فرّق إبليس جنوده لعلم ذلك فأتى سبعة منهم بطن نخلة فاستمعوا قراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فآمنوا ، ثم أتوا قومهم فقالوا : (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) يعني ولم يرجعوا إلى إبليس لما علموه من كذبه وسفاهته ، وجاؤوا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سبعين من قومه فأسلموا فذلك قوله تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً) [الأحقاف : ٢٩] الآيات.

(فَقالُوا) أي : فتسبب عن استماعهم أن قالوا (إِنَّا سَمِعْنا) أي : حين تعمدنا الإصغاء وألقينا إليه أفهامنا (قُرْآناً) أي : كلاما هو في غاية الانتظام في نفسه والجمع لجميع ما يحتاج إليه ، وقرأ ابن كثير بالنقل وقفا ووصلا وحمزة في الوقف دون الوصل والباقون بغير نقل وقفا ووصلا. ثم وصفوا القرآن بالمصدر مبالغة في أمره فقالوا : (عَجَباً) أي : بديعا خارجا عن عادة أمثاله من جميع الكتب الإلهية فضلا عن جميع الناس في جلالة النظم وإعجاز التركيب.

(يَهْدِي) أي : يبين غاية البيان (إِلَى الرُّشْدِ) أي : الحق والصواب (فَآمَنَّا) أي : كل من استمع منا لم يتخلف منا أحد ولا توقف بعد الاستماع (بِهِ) أي : القرآن أي فاهتدينا به وصدّقنا أنه من عند الله.

(وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) أي : لا نرجع إلى إبليس ولا نطيعه ولا نعود إلى ما كنا عليه من الإشراك ، وهذا يدل على أنّ أولئك الجنّ كانوا مشركين. قال الرازي : واعلم أنّ قوله تعالى : (قُلْ) أمر لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يظهر لأصحابه ما أوحي إليه في واقعة الجنّ وفيه فوائد : أحدها : أن يعرفوا بذلك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث إلى الجنّ كما بعث إلى الإنس. ثانيها : أن تعلم قريش أنّ الجنّ مع تمرّدهم لما سمعوا القرآن وعرفوا إعجازه آمنوا بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثالثها : أن يعلم القوم أنّ الجنّ مكلفون كالإنس. رابعها : أن يعلم أنّ الجنّ يستمعون كلاما تفهمه من لغتنا. خامسها : أن يظهر المؤمن منهم بدعوى غيره من الجنّ إلى الإيمان ، وفي هذه الوجوه مصالح كثيرة إذا عرفها الناس.

تنبيهات :

أحدها : اختلف العلماء في أصل الجنّ فروي عن الحس البصري أنّ الجنّ ولد إبليس ، والإنس ولد آدم ، ومن هؤلاء وهؤلاء مؤمنون وكافرون ، وهم شركاء في الثواب والعقاب ، فمن كان من هؤلاء وهؤلاء كافرا فهو شيطان. وروى الضحاك عن ابن عباس أنّ الجنّ هم ولد الجان وليسوا شياطين ومنهم المؤمن ومنهم الكافر ، والشياطين ولد إبليس لا يموتون إلا مع إبليس. وروي أنّ ذلك النفر كانوا يهودا. وذكر الحسن أنّ منهم يهودا ونصارى ومجوسا ومشركين.

ثانيها : اختلفوا في دخول الجنّ الجنة على حسب الاختلاف في أصلهم ، فمن زعم أنهم من

٤٤٢

الجانّ لا من ذرية إبليس قال : يدخلون الجنة بإيمانهم ، ومن قال إنهم من ذرّية إبليس فلهم فيهم قولان : أحدهما وهو قول الحسن : يدخلونها. والثاني وهو رواية مجاهد : لا يدخلونها.

ثالثها : قال القرطبي : قد أنكر جماعة من كفرة الأطباء والفلاسفة الجنّ ، وقالوا : إنهم بسائط ولا يصح طعامهم اجتراء على الله تعالى والقرآن والسنة يردّان عليهم ، وليس في المخلوقات بسيط بل مركب مزدوج ، إنما الواحد الواحد سبحانه وغيره مركب ليس بواحد ، وليس بممتنع أن يراهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صورهم كما يرى الملائكة ، وأكثر ما يتصوّرون لنا في صور الحيات.

ثم عطفوا على قولهم إنا سمعنا (وَأَنَّهُ) أي : الشأن العظيم قال الجنّ (تَعالى) أي : انتهى في العلوّ إلى حدّ لا يستطاع (جَدُّ) أي : عظمة وسلطان وكمال غنى (رَبِّنا) يقال : جدّ الرجل إذا عظم ومنه قول أنس كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جدّ فينا أي عظم قدره. وقال السدي : جدّ ربنا أي أمر ربنا. وقال الحسن : غني ربنا. ومنه قيل : الحظ جدّ ، ورجل مجدود ، أي : محظوظ. وفي الحديث : «ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ» (١). قال أبو عبيد والخليل : أي ذا الغنى منك الغنى إنما تنفعه الطاعة. وقال ابن عباس : قدرة ربنا. وقال الضحاك : فعله. وقال القرطبي : آلاؤه ونعماؤه على خلقه. وقال الأخفش : علا ملك ربنا ، والأولى جميع هذه المعاني ، وقرأ (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا) وما بعده إلى قوله تعالى : (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ) وهي اثنا عشر موضعا ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي بفتح الهمزة في الجميع والباقون بالكسر.

ولما وصفوه بهذا التعالي الأعظم المستلزم للغنى المطلق والتنزه عن كل شائبة نقص بينوه بنفي ما ينافيه من قولهم إبطالا للباطل (مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً) أي : زوجة ؛ لأن الصاحبة لا بدّ وأن تكون من نوع صاحبها ، ومن له نوع فهو مركب تركيبا عقليا من صفة مشتركة وصفة مميزة (وَلا وَلَداً) لأنّ الولد لا بدّ وأن يكون جزءا منفصلا عن والده ومن له أجزاء فهو مركب تركيبا حسيا ، ومن المقطوع به أنّ ذلك لا يكون إلا لمحتاج وأن الله تعالى متعال عن ذلك من تركيب حسي أو عقلي. قال القشيري : ويجوز إطلاق لفظ الجدّ في حق الله تعالى إذ لو لم يجز لما ذكر في القرآن ، غير أنه لفظ موهم فتجنبه أولى. أي : لأنه قيل إنهم عنوا بذلك الجدّ الذي هو أبو الأب ويكون ذلك من قول الجنّ. قال ابن جعفر الصادق : ليس لله تعالى جدّ وإنما قاله الجنّ للجهالة فلم يؤاخذوا به. وقال القرطبي : معنى الآية (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا) أن يتخذ ولدا أو صاحبة للاستئناس بهما أو الحاجة إليهما ، والرب تعالى عن ذلك كما تعالى عن الأنداد والنظراء.

(وَأَنَّهُ) أي : وقالوا : إنّ الشأن هذا على قراءة الكسر وآمنا بأنه على قراءة الفتح. (كانَ يَقُولُ) أي : قولا هو في عراقته في الكذب بمنزلة الجبلة (سَفِيهُنا) هو للجنس ، فيتناول إبليس رأس الجنس تناولا أوّليا وكل من تبعه ممن لم يعرف الله تعالى ، لأنّ ثمرة العقل العلم ، وثمرة العلم معرفة الله تعالى ، فمن لم يعرفه فهو الذي يقول (عَلَى اللهِ) الذي له صفات الكمال المنافية لقول هذا السفيه (شَطَطاً) أي : كذبا وعدوانا ، وهو وصفه بالشريك والولد. والشطط والإشطاط

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأذان حديث ٨٤٤ ، ومسلم في الصلاة حديث ٤٧٨ ، وأبو داود في الصلاة حديث ٨٤٧ ، والترمذي في الصلاة حديث ٢٩٨ ، والنسائي في التطبيق حديث ١٠٦٨ ، وابن ماجه في الإقامة حديث ٨٧٩.

٤٤٣

الغلوّ في الكفر. وقال أبو مالك : هو الجور. وقال الكلبي : هو الكذب ، وأصله : البعد فعبر به عن الجور لبعده عن العدل ، وعن الكذب لبعده عن الصدق.

(وَأَنَّا) أي : يا معشر المسلمين من الجنّ (ظَنَنَّا) أي : حسبنا لسلامة فطرتنا (أَنْ) أي : أنه وزادوا في التأكيد فقالوا (لَنْ تَقُولَ) وبدؤوا بأفضل الجنسين فقالوا (الْإِنْسُ) وأتبعوهم قرناءهم ، فقالوا (وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ) أي : الملك الأعلى الذي بيده النفع والضرّ (كَذِباً) أي : قولا هو لعراقته في مخالفة الواقع نفس الكذب ، وإنما كنا نظنهم صادقين في قولهم إنّ لله صاحبة وولدا حتى سمعنا القرآن وتبينا به الحق قيل انقطع الإخبار عن الجنّ ههنا.

(وَأَنَّهُ) أي : الشان (كانَ رِجالٌ) أي : ذوو قوة وبأس (مِنَ الْإِنْسِ) أي : النوع الظاهر في عالم الحس (يَعُوذُونَ) أي : يلتجئون ويعتصمون خوفا على أنفسهم وما معهم إذا نزلوا واديا (بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ) أي : القبيل المستتر عن الأبصار ، وذلك أنّ القوم منهم كانوا إذا نزلوا واديا أو غيره من القفر تعبث بهم الجنّ في بعض الأحيان ؛ لأنه لا مانع لهم منهم من ذكر الله ولا دين صحيح ولا كتاب من الله تعالى صريح ، فحملهم ذلك على أن يستجيروا بعظمائهم ، فكان الرجل يقول عند نزوله : أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه ، فيبيت في أمن وفي جوار منهم حتى يصبح فلا يرى إلا خيرا ، وربما هدوه إلى الطريق وردوا عليه ضالته ، قال مقاتل : كان أوّل من تعوذ بالجنّ قوم من أهل اليمن من بني حنيفة ، ثم فشا ذلك في العرب ، فلما جاء الإسلام عاذوا بالله تعالى وتركوهم.

وقال كرم بن أبي السائب الأنصاري : خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة وذلك أوّل ما ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة فآوانا المبيت إلى راعي غنم ، فلما انتصف النهار جاء ذئب فأخذ حملا من الغنم فوثب الراعي وقال : يا عامر الوادي جارك فنادى مناد لا نراه يا سرحان أرسله ، فأتى الحمل يشتد حتى دخل الغنم ولم تصبه كدمة ، فكان ذلك فتنة للإنس باعتقادهم في الجن غير ما هم عليه ، فتبعوهم في الضلال وفتنة للجن بأن يغتروا بأنفسهم ويقولوا سدنا الإنس والجن فيضلوا ويضلوا ولذلك سبب عنه قوله تعالى : (فَزادُوهُمْ) أي : الإنس والجن باستعاذتهم (رَهَقاً) أي : ضيقا وشدّة وغشيانا ، فجاءهم فيه من أحوال الضلال التي يلزم منها الضيق والشدّة وقال مجاهد : الرهق : الإثم وغشيان المحارم ورجل رهق إذا كان كذلك. ومنه قوله تعالى : (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) [يونس : ٢٧] وقال الأعشى (١) :

لا شيء ينفعني من دون رؤيتها

هل يشتفي عاشق ما لم يصب رهقا

يعني إثما ، وقال مجاهد أيضا : زادوهم أي : أنّ الإنس زادوا الجن طغيانا بهذا التعوّذ حتى قالت الجن : سدنا الإنس والجن ، وقيل : لا ينطلق لفظ الرجال على الجنّ ، فالمعنى وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الإنس من شرّ الجن ، فكان الرجل مثلا يقول : أعوذ بحذيفة بن بدر من جنّ هذا الوادي. قال القشيري : وفي هذا تحكم إذ لا يبعد إطلاق لفظ الرجل على الجن.

تنبيه : قوله تعالى : (مِنَ الْإِنْسِ) صفة لرجال وكذا قوله (مِنَ الْجِنِّ.)

__________________

(١) يروى عجز البيت بلفظ :

هل يشتفي وامق لم يصب رهقا

والبيت من البسيط ، وهو في ديوان الأعشى ص ٤١٥ ، ولسان العرب (رهق).

٤٤٤

(وَأَنَّهُمْ ،) أي : الإنس (ظَنُّوا) والظنّ قد يصيب وقد يخطئ وهو أكثر (كَما ظَنَنْتُمْ) أي : أيها الجنّ ويجوز العكس (أَنْ) مخففة أي : أنه (لَنْ يَبْعَثَ اللهُ) أي : الذي له الإحاطة الكاملة علما وقدرة (أَحَداً) أي : بعد موته لما لبس به إبليس عليهم حتى رأوا حسنا ما ليس بالحسن ، أو أحدا من الرسل يزيل به عماية الجهل ، وقد ظهر بالقرآن أن هذا الظنّ كاذب ، وأنه لا بدّ من البعث في الأمرين.

قال الجن : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ) أي : زمن استراق السمع منها. قال الكلبي : السماء الدنيا أي : التمسنا أخبارها على ما كان من عادتنا من استماع ما تغوي به الإنس ، واللمس المس فاستعير للطلب ؛ لأن الماس طالب متعرّف ، والمعنى طلبنا بلوغ السماء واستماع كلام أهلها (فَوَجَدْناها) في وجد وجهان :

أظهرهما أنها متعدية لواحد لأنّ معناها أصبنا وصادفنا ، وعلى هذا فالجملة من قولهم (مُلِئَتْ) في موضع نصب على الحال على إضمار قد.

والثاني : أنها متعدّية لاثنين فتكون الجملة في موضع المفعول الثاني ويكون (حَرَساً) منصوبا على التمييز ، نحو : امتلأ الإناء ماء ، والحرس اسم جمع لحارس نحو : خدم لخادم ، وهم الملائكة الذين يرجمونهم بالشهب ويمنعونهم من الاستماع ويجمع تكسيرا على أحراس ، والحارس الحافظ الرقيب ، والمصدر الحراسة و (شَدِيداً) صفة لحرس على اللفظ ، ولو جاء على المعنى لقيل شدادا بالجمع لأن المعنى ملئت ملائكة شدادا كقولك : السلف الصالح ، يعني الصالحين. قال القرطبيّ : ويجوز أن يكون حرسا مصدرا على معنى حرست حراسة شديدة (وَشُهُباً) جمع شهاب ككتاب وكتب وهو انقضاض الكواكب المحرقة لهم المانع لهم عن استراق السمع.

(وَأَنَّا كُنَّا) أي : فيما مضى (نَقْعُدُ مِنْها) أي : السماء (مَقاعِدَ) أي : كثيرة قد علمناها لا حرس فيها صالحة (لِلسَّمْعِ) أي : أن نسمع منها بعض ما تتكلم به الملائكة مما أمروا بتدبيره ، وقد جاء في الخبر أنّ صفة قعودهم هو أن يكون الواحد منهم فوق الآخر حتى يصلوا إلى السماء ، فكانوا يسترقون الكلمة فيلقونها إلى الكهان فيزيدونّ معها الكذب. (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ) أي : في هذا الوقت وفيما يستقبل لا أنهم أرادوا وقت قولهم فقط (يَجِدْ لَهُ) أي : لأجله (شِهاباً) أي : شعلة من نار ساطعة تحرقه (رَصَداً) أي : أرصد به ليرمى به.

تنبيه : اختلفوا هل كانت الشياطين تقذف قبل البعث أو ذلك أمر حدث بمبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال قوم : لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام خمسمائة عام ، وإنما كان من أجل بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما بعث منعوا من السموات كلها وحرست بالملائكة والشهب ، وقال عبد الله بن عمر : لما كان اليوم الذي نبئ فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منعت الشياطين ورموا بالشهب ، قال الزمخشري : والصحيح أنه كان قبل البعث وقد جاء شعره في أهل الجاهلية ، قال بشر بن أبي خازم (١) :

والعير يرهقها الغبار وجحشها

ينقض خلفها انقضاض الكوكب

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو في ديوان بشر بن أبي خازم ص ٣٦.

٤٤٥

ولكنّ الشياطين كانت تسترق السمع في بعض الأحوال ، فلما بعث صلى‌الله‌عليه‌وسلم كثر الرجم وازداد زيادة ظاهرة حتى تنبه لها الإنس والجنّ ومنع الاستراق أصلا.

وعن معمر قلت للزهري : أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ قال : نعم. قلت : أرأيت قوله تعالى : (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ؟) قال : غلظت وشدد أمرها حين بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وروى الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس قال : «بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالس في نفر من الأنصار إذ رمي بنجم فاستنار ، فقال : «ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية»؟ فقالوا : كنا نقول يموت عظيم أو يولد عظيم. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنها لا ترمى لموت أحد ولا لحياته ، ولكن ربنا تبارك وتعالى إذا قضى أمرا في السماء سبح حملة العرش ثم سبح أهل كل سماء حتى ينتهي التسبيح إلى هذه السماء ، فتسأل أهل السماء حملة العرش : ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم وتخبر أهل كل سماء حتى ينتهي الخبر إلى أهل هذه السماء» (١). وهذا يدل على أنّ هذه الشهب كانت موجودة ، قال ابن عادل : وهذا قول الأكثرين.

فإن قيل : كيف تتعرّض الجنّ لاحتراق أنفسها بسبب سماع خبر بعد أن صار ذلك معلوما لهم؟ أجيب : بأنّ الله تعالى ينسيهم ذلك حتى تعظم المحنة. قال القرطبي : والرصد قيل من الملائكة أي ورصدا من الملائكة ، والرصد الحافظ للشيء والجمع أرصاد ، وقيل : الرصد هو الشهاب ، أي : شهاب قد أرصد له ليرجم به فهو فعل بمعنى مفعول.

واختلف فيمن قال (وَأَنَّا لا نَدْرِي) أي : بوجه من الوجوه (أَشَرٌّ أُرِيدَ) أي : بعدم استراق السمع (بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ) أي : المحسن إليهم المدبر لهم (رَشَداً) أي : خيرا فقال ابن زيد : معنى الآية أن إبليس قال : لا ندري هل أراد الله بهذا المنع أن ينزل على أهل الأرض عقابا أو يرسل إليهم رسولا. وقيل : هو من قول الجنّ فيما بينهم قبل أن يستمعوا قراءة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي : لا ندري أشر أريد بمن في الأرض بإرسال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم ، فإنهم يكذبونه ويهلكون بتكذيبه كما هلك من كذّب من الأمم ، أم أراد أن يؤمنوا فيهتدوا فالشر والرشد على هذا الكفر والإيمان ، وعلى هذا كان عندهم علم بمبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولما سمعوا قراءته علموا أنهم منعوا من السماء حراسة للوحي. وقيل : قالوا لقومهم بعد أن انصرفوا إليهم منذرين أي : لما آمنوا أشفقوا أن لا يؤمن كثير من أهل الأرض ، فقالوا : إنا لا ندري أيكفر أهل الأرض بما آمنا به أم يؤمنون.

قال الجنّ (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ) أي : العريقون في صفة الصلاح ، قال الجلال المحلي بعد استماع القرآن (وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) أي : قوم غير صالحين (كُنَّا) أي : كونا هو كالجبلة (طَرائِقَ قِدَداً) أي : جماعات متفرّقين وأصنافا مختلفة ، قال سعيد بن المسيب : معنى الآية كنا مسلمين ويهودا ونصارى ومجوسا ، وقال الحسن والسدّي : الجنّ أمثالكم فمنهم قدرية ومرجئة ورافضة وخوارج وشيعة وسنية. وقال ابن كيسان : شيعا وفرقا لكل فرقة هوى كأهواء الناس. وقال سعيد بن جبير : ألوانا شتى. وقال أبو عبيدة : أصنافا وقيل : منا الصالحون ومنا المؤمنون ، لم يتناهوا في الصلاح.

قال القرطبي : والأوّل أحسن لأنه كان في الجنّ من آمن بموسى وعيسى ، وقد أخبر الله

__________________

(١) أخرجه الترمذي في تفسير القرآن حديث ٣٢٢٤ ، وأحمد في المسند ١ / ٢١٨.

٤٤٦

تعالى عنهم أنهم قالوا : (إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) [الأحقاف : ٣٠] وهذا يدل على إيمان قوم منهم بالتوراة.

تنبيه : القدد جمع قدة والمراد بها الطريقة وأصلها السيرة ، يقال : قدة فلان حسنة ، أي : سيرته وهو من قدّ السير ، أي : قطعه ، فاستعير للسيرة المعتدلة. قال الشاعر (١) :

القابض الباسط الهادي بطلعته

في فتنة الناس إذ أهواؤهم قدد

وقال لبيد يرثي أخاه (٢) :

لم تبلغ العين كل نهمتها

يوم تمشي الجياد بالقدد

والقد بالكسر سير يقد من جلد غير مدبوغ ، ويقال : ما له قد ولا قحف ، فالقد إناء من جلد والقحف إناء من خشب.

(وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ) أي : وإنا علمنا وتيقنا بالتفكر والاستدلال في آيات الله أنا في قبضة الملك وسلطانه لن نفوته بهرب ولا غيره لما له من الإحاطة بكل شيء علما وقدرة لأنه واحد لا مثل له.

تنبيه : أطلقوا الظنّ على العلم إشارة إلى أنّ العاقل ينبغي له أن يتجنب ما يتخيله ضارا ولو بأدنى أنواع التخيل ، فكيف إذا تيقن. وقولهم (فِي الْأَرْضِ) حال ، وكذلك هربا في قولهم (وَلَنْ نُعْجِزَهُ) أي : بوجه من الوجوه (هَرَباً) فإنه مصدر في موضع الحال تقديره لا نفوته كائنين في الأرض أو هاربين منها إلى السماء ، فليس لنا مهرب إلا في قبضته فأين أم إلى أين المهرب.

(وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا) أي : من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الْهُدى) أي : القرآن الذي له من العراقة التامة في صفة البيان والدعاء إلى الخير ما سوّغ أن يطلق عليه نفس الهدى (آمَنَّا بِهِ) وبالله وصدقنا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم على رسالته وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبعوثا إلى الإنس والجنّ. قال الحسن : بعث الله تعالى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الإنس والجن ولم يبعث الله تعالى قط رسولا من الجن ولا من أهل البادية ولا من النساء ، وذلك لقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) [يوسف : ١٠٩] وفي الصحيح : «وبعثت إلى الأحمر والأسود» (٣) أي الإنس والجنّ ، وفي إرساله إلى الملائكة خلاف قدّمنا الكلام عليه.

(فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ) أي : المحسن إليه منا ومن غيرنا (فَلا) أي : فهو خاصة لا (يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً) قال ابن عباس : لا يخاف أن ينقص من حسناته ولا أن يزاد في سيئاته لأن البخس النقصان والرهق العدوان وغشيان المحارم.

(وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (١٧) وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً (١٨) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً

__________________

(١) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.

(٢) البيت من المنسرح ، وهو في ديوان لبيد ص ١٦٠.

(٣) أخرجه مسلم في المساجد حديث ٥٢١ ، والدارمي في السير حديث ٢٤٦٧ ، وأحمد في المسند ١ / ٢٥٠ ، ٣٠١ ، ٤ / ٤١٦ ، ٥ / ١٤٥ ، ١٤٨ ، ١٦٢.

٤٤٧

(١٩) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (٢٣) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (٢٤) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (٢٨))

(وَأَنَّا مِنَّا) أي : الجن (الْمُسْلِمُونَ) أي : المخلصون في صفة الإسلام (وَمِنَّا الْقاسِطُونَ) أي : الجائرون أي : وإنا بعد سماع القرآن مختلفون فمنا من أسلم ومنا من كفر ، والقاسط الجائر لأنه عدل عن الحق ، والمقسط العادل إلى الحق ، قسط إذا جار ، وأقسط إذا عدل فقسط الثلاثي بمعنى جار ، وأقسط الرباعي بمعنى عدل.

وعن سعيد بن جبير : أنّ الحجاج قال له حين أراد قتله : ما تقول فيّ؟ قال : قاسط عادل. فقال القوم : ما أحسن ما قال ، حسبوا أنه يصفه بالقسط والعدل. فقال الحجاج : يا جهلة إنما سماني ظالما مشركا وتلا لهم قوله تعالى : (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً. ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام : ١].

(فَمَنْ أَسْلَمَ) أي : أوقع الإسلام كله بأن أسلم ظاهره وباطنه من الجن وغيرهم (فَأُولئِكَ) أي : العالو الرتبة (تَحَرَّوْا) أي : توخوا وقصدوا مجتهدين (رَشَداً) أي : صوابا عظيما وسدادا كان لما عندهم من النقائص شاردا عنهم ، فعالجوا أنفسهم حتى ملكوه فجعلوه لهم منزلا.

(وَأَمَّا الْقاسِطُونَ) أي : العريقون في صفة الجور عن الصواب من الإنس والجن ، فأولئك أهملوا أنفسهم فلم يتحرّوا لها فضلوا فأبعدوا عن الطريق القويم فوقعوا في المهالك التي لا منجى منها. (فَكانُوا لِجَهَنَّمَ) أي : النار البعيدة القعر التي تلقاهم بالتجهم والكراهة والعبوسة (حَطَباً) أي : توقد بهم النار فهي في اتقاد ما داموا أحياء ، ما دامت تتقدّ لا يموتون فيستريحون ولا يحيون فينتعشون.

تنبيه : قوله تعالى : (فَكانُوا ،) أي : في علم الله عزوجل. فإن قيل : لم ذكروا عقاب القاسطين ولم يذكروا ثواب المسلمين؟ أجيب : بأنهم في مقام الترهيب فذكروا ما يحذر وطووا ما يحب للعلم به لأنّ الله لا يضيع أجر من أحسن عملا بل لا بد أن يزيد عليه تسعة أضعافه وعنده المزيد أو أنهم ذكروه بقولهم (تَحَرَّوْا رَشَداً) أي : تحرّوا رشدا عظيما لا يعلم كنهه إلا الله تعالى ، ومثل هذا لا يتحقق إلا في الثواب.

فإن قيل : إنّ الجنّ مخلوقون من النار فكيف يكونون حطبا للنار؟ أجيب : بأنهم وإن خلقوا منها لكنهم يغيرون عن تلك الكيفية فيصيرون لحما ودما هكذا قيل وهذا آخر كلام الجن.

وأن في قوله تعالى : (وَأَنْ) هي المخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي : وأنهم وهو معطوف على أنه استمع أي وأوحي إلي أنّ الشأن العظيم. (لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ) أي : طريقة الإسلام (لَأَسْقَيْناهُمْ) أي : لجعلنا لهم بما لنا من العظمة (ماءً غَدَقاً) أي : لو آمن هؤلاء الكفار لوسّعنا عليهم في الدنيا ولبسطنا لهم في الرزق. وضرب الماء الغدق مثلا ، لأنّ الخير والرزق كله

٤٤٨

في المطر ، كما قال تعالى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ) [الأعراف : ٩٦] الآية. وقال تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) [المائدة : ٦٦] الآية. وقال تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) [الطلاق : ٢] الآية. وقال تعالى : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) إلى قوله : (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ) [نوح : ١٠ ـ ١٢] الآية.

(لِنَفْتِنَهُمْ) أي : نعاملهم معاملة المختبر بما لنا من العظمة (فِيهِ) أي : في ذلك الماء الذي تكون عنده أنواع النعم لينكشف حال الشاكر والكافر.

قال الرازي : وهذا بعد ما حبس عنهم المطر سنين ا. ه. قال الجلال المحلي : سبع سنين. وقال عمر رضي الله تعالى عنه : أينما كان الماء كان المال ، وأينما كان المال كانت الفتنة. وقال الحسن وغيره : كانوا سامعين مطيعين ، ففتحت عليهم كنوز كسرى وقيصر ففتنوا بها فوثبوا بإمامهم فقتلوه يعني عثمان رضي الله تعالى عنه. قال البقاعي : ويجوز أن يكون مستعارا للعلم وأنواع المعارف الناشئة عن العبادات التي هي للنفوس كالنفوس للأبدان ، وتكون الفتنة بمعنى التخليص من الهموم والرذائل في الدنيا والنعم في الآخرة من فتنت الذهب ، إذا : خلصته من غشه.

(وَمَنْ يُعْرِضْ) أي : إعراضا مستمرا إلى الموت (عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ) أي : مجاوزا عن عبادة المحسن إليه المربي له الذي لا إحسان عنده من غيره. وقيل : المراد بالذكر القرآن ، وقيل : الوحي. وقيل : الموعظة. (نَسْلُكُهُ) أي : ندخله (عَذاباً) يكون مظروفا فيه كالخيط في ثقب الخرزة في غاية الضيق (صَعَداً) أي : شاقا شديدا يعلوه ويغلبه ويصعد عليه ، ويكون كل يوم أعلى مما قبله جزاء وفاقا. وقال ابن عباس : هو جبل في جهنم. قال الخدري : كلما جعلوا أيديهم عليه ذابت. وعن ابن عباس : أنّ المعنى مشقة من العذاب ، لأنّ الصعد في اللغة هو المشقة ، تقول : تصعدني الأمر إذا شق عليك ، ومنه قول عمر : ما تصعدني شيء ما تصعدني في خطبة النكاح ، يريد ما شق علي وما غلبني والمشي في الصعود يشق.

وقال عكرمة : هو صخرة ملساء في جهنم يكلف صعودها ، فإذا انتهى إلى أعلاها حدر إلى جهنم. وقال الكلبي : يكلف الوليد بن المغيرة أن يصعد جبلا في النار من صخرة ملساء يجذب من أمامه بسلاسل ويضرب من خلفه بمقامع حتى يبلغ أعلاها ولا يبلغ في أربعين سنة ، فإذا بلغ أعلاها أحدر إلى أسفلها ، ثم يكلف أيضا الصعود فذاك دأبه أبدا وهو قوله تعالى : (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) [المدثر : ١٧] وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالياء التحتية على الغيبة لإعادة الضمير على الله تعالى والباقون بالنون على الالتفات وهذا كما في قوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) [الإسراء : ١٠] ثم قال : (بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) [الإسراء : ١].

واتفقوا على فتح الهمزة في قوله تعالى : (وَأَنَ) أي : وأوحي إليّ أنّ (الْمَساجِدَ لِلَّهِ) أي : مختصة بالملك الأعظم والمساجد قيل جمع مسجد بالكسر وهو موضع السجود ، وقال الحسن : أراد بها كل البقاع لأنّ الأرض جعلت كلها مسجدا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «أينما كنتم فصلوا وأينما صليتم فهو مسجد» (١). وقيل : إنه جمع مسجد بالفتح مرادا به الأعضاء الواردة في الحديث :

__________________

(١) أخرجه القرطبي في تفسيره ١٩ / ٢٠ ، وأخرجه مسلم في المساجد حديث ١ ، وأحمد في المسند ٥ / ١٥٦ ، ١٥٧ ، بلفظ : «أينما أدركتك فصل فهو مسجد».

٤٤٩

الجبهة والأنف والركبتان واليدان والقدمان وهو قول سعيد بن المسيب ، وابن حبيب.

والمعنى : أنّ هذه الأعضاء أنعم الله تعالى بها عليك فلا تسجد لغيره فتجحد نعمة الله. قال عطاء : مساجدك أعضاؤك التي أمرت بالسجود عليها لا تذللها لغير خالقها ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم» (١) وذكر الحديث. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب» (٢).

قال ابن الأثير : الآراب الأعضاء. وهذا القول اختاره ابن الأنباري. وقيل : بل جمع مسجد وهو مصدر بمعنى السجود ويكون الجمع لاختلاف الأنواع. وقال القرطبي : المراد بها البيوت التي تبنيها أهل الملل للعبادة قال سعيد بن جبير : قالت الجنّ : كيف لنا أن نأتي المساجد ونشهد معك الصلاة ونحن ناؤون عنك؟ فنزلت (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) أي : بنيت لذكر الله تعالى وطاعته. وقال ابن عباس : المساجد هنا مكة التي هي القبلة وسميت مكة مساجد لأنّ كل أحد يسجد إليها.

قال القرطبي : والقول بأنها البيوت المبنية للعبادة أظهر الأقوال إن شاء الله تعالى وهو مروي عن ابن عباس ، وإضافة المساجد إلى الله تعالى إضافة تشريف وتكريم وخص منها المسجد العتيق بالذكر فقال تعالى (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ) [الحج : ٢٦] وهي وإن كانت لله ملكا وتشريفا قد تنسب إلى غيره تعريفا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام» (٣) وفي رواية : «إن صلاة فيه خير من مائة صلاة في مسجدي هذا» (٤). قال القرطبي : وهذا حديث صحيح. وفي حديث سابق صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق (٥) ، ويقال مسجد فلان لأنه حبسه ولا خلاف بين الأمّة في تحبيس المساجد والقناطر والمقابر وإن اختلفوا في تحبيس غير ذلك.

(فَلا تَدْعُوا) أي : فلا تعبدوا أيها المخلوقون (مَعَ اللهِ) الذي له جميع العظمة (أَحَداً) وهذا توبيخ للمشركين في دعواهم مع الله تعالى غيره في المسجد الحرام ، وقال مجاهد : كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله فأمر الله تعالى نبيه والمؤمنين أن يخلصوا لله الدعوة إذا دخلوا المساجد كلها يقول : فلا تشركوا فيها صنما أو غيره مما يعبد ، وقيل : المعنى أفردوا المساجد لذكر الله تعالى ولا تجعلوا لغير الله تعالى فيها نصيبا وفي الصحيح : «من نشد ضالة في المسجد فقولوا : لا ردّها الله عليك ، فإنّ المساجد لم تبن لهذا» (٦) وقال الحسن : من السنة إذا دخل رجل المسجد أن يقول لا إله إلا الله ؛ لأنّ قوله تعالى : (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً)

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأذان حديث ٨١٢ ، ومسلم في الصلاة حديث ٤٩٠ ، والترمذي في الصلاة حديث ٢٧٣ ، والنسائي في التطبيق حديث ١٠٩٧ ، وابن ماجه في الإقامة حديث ٨٨٣ ، والدارمي في الصلاة حديث ١٣١٩.

(٢) أخرجه أبو داود في الصلاة حديث ٨٩٠ ، والترمذي في الصلاة حديث ٢٧٢ ، والنسائي في التطبيق حديث ١٠٩٤ ، وابن ماجه في الإقامة حديث ٨٨٥ ، وأحمد في المسند ١ / ٢٠٦ ، ٢٠٨.

(٣) أخرجه البخاري في الجمعة حديث ١١٩٠ ، ومسلم في الحج حديث ١٣٩٤ ، والترمذي في الصلاة حديث ٣٢٥ ، والنسائي في المناسك حديث ٢٨٩٨ ، وابن ماجه في الإقامة حديث ١٤٠٤.

(٤) أخرجه أحمد في المسند ١ / ١٨٤ ، ٢ / ٢٥٦ ، ٢٧٧ ، ٤١٦ ، ٤٨٤.

(٥) أخرجه البخاري في الصلاة حديث ٤٢١.

(٦) أخرجه مسلم في المساجد حديث ٥٦٨ ، وابن ماجه في المساجد حديث ٧٦٧.

٤٥٠

في ضمنه أمر بذكر الله تعالى ودعائه ، وروى الضحاك عن ابن عباس «أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا دخل المسجد قدّم رجله اليمنى ، وقال : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) اللهمّ عبدك وزائرك وعلى كل مزور حق وأنت خير مزور ، فأسألك برحمتك أن تفك رقبتي من النار ، فإذا خرج من المسجد قدّم رجله اليسرى ، وقال : اللهمّ صب عليّ الخير صبا ولا تنزع عني صالح ما أعطيتني أبدا ولا تجعل معيشتي كدّا واجعل لي في الأرض جدّا» (١) أي : غنى.

وقرأ (وَأَنَّهُ) نافع وشعبة بكسر الهمزة على الاستئناف والباقون بالفتح أي وأوحي إليّ أنه (لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ) أي : عبد الملك الأعلى الذي له الجلال كله والجمال ، فلا موجود يدانيه بل كل موجود من فائض فضله وعبد الله هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين كان يصلي ببطن نخلة ويقرأ القرآن.

فإن قيل : هلا قيل رسول الله أو النبي؟ أجيب : بأنّ تقديره وأوحي ، فلما كان واقعا في كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن نفسه جيء به على ما يقتضيه التواضع والتذلل أو لأنّ المعنى أنّ عبادة عبد الله ليست بأمر مستبعد عن العقل ولا مستنكر حتى تكونوا عليه لبدا ، ومعنى (يَدْعُوهُ) أي : يعبده وقال ابن جريح : يدعوه أي قام إليهم داعيا إلى الله تعالى ، فهو في موضع الحال أي : موحدا له (كادُوا) أي : قرب الجنّ المستمعون لقراءته (يَكُونُونَ عَلَيْهِ) أي : على عبد الله (لِبَداً) أي : متراكمين بعضهم على بعض من شدّة ازدحامهم حرصا على سماع القرآن وقيل : كادوا يركبونه حرصا قاله الضحاك. وقال ابن عباس : رغبة في سماع القرآن وروي عن مكحول أنّ الجنّ بايعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذه الليلة وكانوا سبعين ألفا ، وفرغوا من بيعته عند انشقاق الفجر ، وعن ابن عباس أيضا أنّ هذا من قول الجن لما رجعوا إلى قومهم أخبروهم بما رأوا من طاعة أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وائتمامهم به في الركوع والسجود.

وقال الحسن وقتادة وابن زيد : يعني لما قام عبد الله محمد بالدعوة تلبدت الإنس والجنّ على هذا الأمر ليبطلوه فأبى الله تعالى إلا أن ينصره ويتم نوره ، واختار الطبري أن يكون كادت العرب يجتمعون على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويتظاهرون على إطفاء النور الذي جاء به ، وقرأ هشام بضم اللام والباقون بكسرها ، فالأولى جمع لبدة بضم اللام نحو غرفة وغرف. وقيل : بل هو اسم مفرد صفة من الصفات ، وعليه قوله تعالى : (مالاً لُبَداً) [البلد : ٦] وأمّا الثانية فجمع لبدة بالكسر نحو قربة وقرب واللبدة واللبدة الشيء الملبد أي : المتراكب بعضه على بعض ومنه لبدة الأسد كقول زهير (٢) :

لدى أسد شاكي السلاح مقذف

له لبد أظفاره لم تقلم

ومنه اللبد لتلبد بعضه فوق بعض.

ولما قال كفار قريش للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنك جئت بأمر عظيم وقد عاديت الناس كلهم فارجع عن هذا فنحن نجيرك (قُلْ) صلى‌الله‌عليه‌وسلم مجيبا لهم (إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي) أي : الذي أوجدني ورباني ولا نعمة عندي إلا منه وحده لا أدعو غيره حتى تعجبوا مني (وَلا أُشْرِكُ بِهِ) أي : الآن ولا في مستقبل

__________________

(١) أخرجه ابن كثير في تفسيره ٦ / ٤١٨ ، والقرطبي في تفسيره ١٩ / ٢٢.

(٢) البيت من الطويل ، وهو لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص ٢٤ ، ولسان العرب (قذف) ، (مكن) ، تهذيب اللغة ٩ / ٧٦ ، وجمهرة اللغة ص ٩٧٤ ، وتاج العروس (قذف).

٤٥١

الزمان بوجه من الوجوه (أَحَداً) من ودّ وسواع ويغوث ويعوق وغيرها من الصامت والناطق ، وقرأ عاصم وحمزة قل بصيغة الأمر التفاتا ، أي : قل يا محمد والباقون قال بصيغة الماضي والخبر إخبارا عن عبد الله وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال الجحدري : وهو في المصحف كذلك وقد تقدّم لذلك نظائر في (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي) [الإسراء : ٩٣] في آخر الإسراء وكذا في أوّل الأنبياء وآخرها وآخر المؤمنين.

(قُلْ) أي : يا أشرف الخلق لهؤلاء الذين خالفوك (إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ) أي : الآن ولا بعده بنفسي من غير إقدار الله تعالى لي (ضَرًّا وَلا رَشَداً) أي : لا أقدر أن أدفع عنكم ضرا ولا أسوق إليكم خيرا ، وقيل : لا أملك لكم ضرا أي : كفرا ولا رشدا أي : هدى ؛ لأنه لا يؤثر شيء من الأشياء إلا الله تعالى ، وإنما عليّ البلاغ. وقيل : الضر الموت ، والرشد الحياة.

(قُلْ) أي : لهؤلاء (إِنِّي) وزاد في التأكيد لأنّ ذلك في غاية الاستقرار في النفوس فقال : (لَنْ يُجِيرَنِي) أي : فيدفع عني ما يدفع المجير عن جاره (مِنَ اللهِ) أي : الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد معه (أَحَدٌ) أي : كائن من كان إن أرادني سبحانه بسوء (وَلَنْ أَجِدَ) أي : أصلا (مِنْ دُونِهِ) أي : الله تعالى (مُلْتَحَداً) أي : معدلا وموضع ميل وركون ومدخلا وملتجأ وحيلة وإن اجتهدت كل الجهد ، والملتحد الملجأ وأصله المدخل من اللحد وقيل : محيصا ومعدلا.

وقوله : (إِلَّا بَلاغاً) فيه أوجه أحدها : أنه استثناء منقطع أي لكن إن بلغت عن الله رحمني لأنّ البلاغ عن الله لا يكون داخلا تحت قوله (وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) لأنه لا يكون من دون الله بل يكون من الله تعالى وبإعانته وتوفيقه.

الثاني : أنه متصل وتأويله أنّ الاستجارة مستعارة من البلاغ إذ هو سببها وسبب رحمته تعالى والمعنى : لن أجد شيئا أميل إليه واعتصم به إلا أن أبلغ وأطيع فيجيرني ، وإذا كان متصلا جاز نصبه من وجهين : أرجحهما أن يكون بدلا من (مُلْتَحَداً ؛) لأنّ الكلام غير موجب وهو اختيار الزجاج.

الثاني : أنه منصوب على الاستثناء.

الثالث : أنه مستثنى من قوله لا أملك ، فإنّ التبليغ إرشاد وانتفاع وما بينهما اعتراض مؤكد لنفي الاستطاعة.

وقوله : (مِنَ اللهِ) أي : الذي أحاط بكلّ شيء قدرة وعلما فيه وجهان أحدهما : أنّ من بمعنى عن لأن بلغ يتعدّى بها ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا بلغوا عني» (١). والثاني : أنه متعلق بمحذوف على أنه صفة لبلاغا. قال الزمخشري : من ليست بصلة للتبليغ ، وإنما هي بمنزلة من في قوله تعالى : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ) [التوبة : ١] بمعنى بلاغا كائنا من الله. وقوله (وَرِسالاتِهِ) فيه وجهان : أحدهما : أنه منصوب نسقا على بلاغا كأنه قيل لا أملك لكم إلا التبليغ والرسالات ولم يقل الزمخشري غيره. والثاني : أنه مجرور نسقا على الجلالة ، أي : إلا بلاغا عن الله تعالى وعن رسالاته ، كذا قدره أبو حيان وجعله هو الظاهر. ويجوز فيه جعل من بمعنى عن ، والتجوّز في الحروف مذهب كوفي ومع ذلك فغير منقاس عندهم.

__________________

(١) روي الحديث بلفظ : «بلغوا عني ولو آية ...» أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء حديث ٣٤٦١ ، والترمذي في العلم حديث ٢٦٦٩.

٤٥٢

(وَمَنْ يَعْصِ اللهَ) أي : الذي له العظمة كلها (وَرَسُولَهُ) الذي ختم به النبوّة والرسالة ، فجعل رسالته محيطة بجميع الملل في التوحيد وغيره على سبيل الحجر (فَإِنَّ لَهُ) أي : خاصة (نارَ جَهَنَّمَ) أي : التي تلقاه بالعبوسة والغيظ ، وقوله تعالى : (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) حال مقدّرة من الهاء في له. والمعنى : مقدّر خلودهم والعامل الاستقرار الذي تعلق به هذا الجار وحمل على معنى من فعل ذلك ، فوحد أوّلا للفظ وجمع للمعنى. وأكد بقوله تعالى : (فِيها) ردّا على من يدعي الانقطاع. قال البقاعي : وأمّا من يدعي أنها لا تحرق وأنّ عذابها عذوبة فليس أحد أجنّ منه إلا من تابعه على ضلاله وغيه ومحاله ، وليس لهم دواء إلا السيف في الدنيا والعذاب في الآخرة بما سموه عذوبة وهم صائرون إليه وموقوفون عليه.

وحتى في قوله تعالى : (حَتَّى إِذا رَأَوْا) ابتدائية فيها معنى الغاية لمقدر قبلها أي لا يزالون على كفرهم إلى أن يروا (ما يُوعَدُونَ) من العذاب في الآخرة أو في الدنيا كوقعة بدر (فَسَيَعْلَمُونَ) أي : في ذلك اليوم بوعد لا خلف فيه (مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً) أي : من جهة الناصر أنا وإن كنت في هذا الوقت وحيدا مستضعفا أو هم (وَأَقَلُّ عَدَداً) وإن كانوا الآن بحيث لا يحصيهم عددا إلا الله تعالى ، فيالله ما أعظم كلام الرسل حيث يستضعفون أنفسهم ويذكرون قوّتهم من جهة مولاهم الذي بيده الملك ، وله جنود السموات والأرض بخلاف الجبابرة ، فإنهم لا كلام لهم إلا في تعظيم أنفسهم وازدراء غيرهم.

قال مقاتل : لما سمعوا قوله تعالى : (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً) قال النضر بن الحارث : متى يكون هذا الذي توّعدنا به ، قال الله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قُلْ) أي : لهؤلاء في جوابهم بإتيانهم العذاب وسألوا استهزاء عن وقت وقوعه (إِنْ) أي : ما (أَدْرِي) بوجه من الوجوه (أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ) أي : فيكون الآن أو قريبا من هذا الأوان بحيث يتوقع عن قرب ، وقوله (أَمْ يَجْعَلُ) أي : أم بعيد يجعل (لَهُ) أي : لهذا الوعد (رَبِّي) أي : المحسن إليّ إن قدمه أو أخره (أَمَداً) أي : أجلا مضروبا فلا يتوقع دون ذلك الأمد فهو في كل حال متوقع ، فكونوا على غاية الحذر لأنه لا بدّ من وقوعه لا كلام فيه ، وإنما الكلام في تعيين وقته وليس إليّ.

فإن قيل : أليس إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بعثت أنا والساعة كهاتين» (١) فكان عالما بقرب وقوع القيامة فكيف قال ههنا لا أدري أقريب أم بعيد؟ أجيب : بأنّ المراد بقرب وقوعه هو أنّ ما بقي من الدنيا أقل مما انقضى ، فهذا القدر من القرب معلوم ، فأمّا معرفة مقدار القرب المرتب وعدم ذلك فغير معلوم.

تنبيه : أقريب خبر مقدّم ، وما توعدون مبتدأ مؤخر ، ويجوز أن يكون قريب مبتدأ لاعتماده على الاستفهام ، وما توعدون فاعل به ، أي : أقريب الذي توعدون نحو : أقائم أبواك ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بسكونها. وقوله تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ) بدل من ربي أو

__________________

(١) أخرجه البخاري في الرقاق باب ٣٩ ، والطلاق باب ٢٥ ، وتفسير سورة ٧٩ ، باب ١ ، ومسلم في الجمعة حديث ٤٣ ، والفتن حديث ١٣٢ ـ ١٣٥ ، وابن ماجه في المقدمة باب ٧ ، والفتن باب ٢٥ ، والدارمي في الرقاق باب ٤٦ ، وأحمد في المسند ٤ / ٣٠٩ ، ٥ / ٩٢ ، ١٠٣ ، ١٠٨.

٤٥٣

بيان أو خبر مبتدأ مضمر ، أي : هو عالم الغيب كله وهو ما لم يبرز إلى عالم الشهادة فهو مختص بعلمه سبحانه فلذلك سبب عنه قوله تعالى : (فَلا يُظْهِرُ) أي : بوجه من الوجوه في وقت من الأوقات. (عَلى غَيْبِهِ) الذي غيبه عن غيره فهو مختص به (أَحَداً) لعزة علم الغيب ولأنه خاصة الملك. (إِلَّا مَنِ ارْتَضى) وقوله تعالى : (مِنْ رَسُولٍ) تبيين لمن ارتضى ، أي : إلا من يصطفيه لرسالته ونبوّته فيظهره على ما يشاء من الغيب ، وتارة يكون ذلك الرسول ملكا ، وتارة يكون بشرا ، وتارة يظهره على ذلك بواسطة ملك ، وتارة بغير واسطة كموسى عليه‌السلام في أوقات المناجاة ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة المعراج في العالم الأعلى في حضرة قاب قوسين أو أدنى.

وقال القرطبي : المعنى (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) فإنه يظهره على ما يشاء من غيبه لأنّ الرسل مؤيدون بالمعجزات ، ومنها الإخبار عن بعض المغيبات كما ورد في التنزيل في قوله تعالى : (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) [آل عمران : ٤٩].

وقال الزمخشري : في هذه الآية إبطال الكرامات لأنّ الذين تضاف إليهم وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل ، وقد خص الله تعالى الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب ، وفيها إبطال الكهانة والتنجيم لأنّ أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء وأدخله في السخط ا. ه. وإنكار الكرامات مذهب المعتزلة.

وأمّا مذهب أهل السنة فيثبتونها ، فإنه يجوز أن يلهم الله تعالى بعض أوليائه وقوع بعض الوقائع في المستقبل فيخبر به وهو من إطلاع الله إياه على ذلك ، ويدل على صحة ذلك ما روي عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لقد كان فيمن قبلكم من الأمم ناس محدثون من غير أن يكونوا أنبياء وإن يكن في أمّتي أحد فإنه عمر» (١) أخرجه البخاري. قال ابن وهب : تفسير محدثون ملهمون ولمسلم عن عائشة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يقول : «في الأمم قبلكم محدثون ، فإن يكن في أمّتي منهم أحد ، فإنّ عمر بن الخطاب منهم» (٢) ففي هذا إثبات كرامات الأولياء.

فإن قيل : لو جازت الكرامة للولي لما تميزت معجزة النبي من غيرها وانسدّ الطريق إلى معرفة الرسول من غيره؟ أجيب : بأنّ معجزة النبي أمر خارق للعادة مع عدم المعارضة مقترن بالتحدّي ، ولا يجوز للولي أن يدّعي خرقا للعادة مع التحدّي إذ لو ادعاه الولي لكفر من ساعته فبان الفرق بين المعجزة والكرامة. وأمّا الكهانة وما ضاهاها فقال القرطبي : إنّ العلماء قالوا لما تمدّح سبحانه بعلم الغيب واستأثر به دون خلقه كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه ، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل ، فأعلمهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم وجعله معجزة لهم ودلالة صادقة على نبوّتهم ، وليس المنجم ومن ضاهاه ومن يضرب بالحصا وينظر في الكواكب ويزجر بالطير ممن ارتضاه من رسول فيطلعه على ما يشاء من غيبه ، بل هو كافر بالله مفتر عليه بحدسه وتخمينه وكذبه.

قال بعض العلماء : وليت شعري ما يقول المنجم في سفينة ركب فيها ألف إنسان مختلفي الأحوال والرتب ، فيهم الملك والسوقة والعالم والجاهل والغني والفقير والكبير والصغير مع اختلاف طوالعهم وتباين مواليدهم ودرجات نجومهم ، فعمهم حكم الغرق في ساعة واحدة ، فإن

__________________

(١) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء حديث ٣٤٦٩ ، وانظر الحاشية التالية.

(٢) أخرجه مسلم في فضائل الصحابة حديث ٢٣٩٨ ، والترمذي في المناقب حديث ٣٦٩٣.

٤٥٤

قال قائل : إنما أغرقهم الطالع الذي ركبوا فيه فيكون على مقتضى ذلك أنّ هذا الطالع أبطل أحكام تلك الطوالع كلها على اختلافها عند ولادة كل واحد منهم ، وما يقتضيه طالعه المخصوص به ، فلا فائدة إذا في عمل المواليد ولا دلالة فيها على شقي وسعيد ولم يبق إلا معاندة القرآن الكريم ، ولقد أحسن القائل (١) :

حكم المنجم إن طالع مولدي

يقضي علي بميتة الغرق

قل للمنجم صبحة الطوفان هل

ولد الجميع بكوكب الغرق

وقيل لعلي رضي الله عنه لما أراد لقاء الخوارج : تلقهم والقمر في العقرب ، فقال : فأين قمرهم وكان ذلك في آخر السنة. فانظر إلى هذه الكلمة التي أجاب بها وما فيها من المبالغة في الردّ على من يقول بالنجم. وقال له مسافر بن عون : يا أمير المؤمنين لا تسر في هذه الساعة وسر بعد ثلاث ساعات تمضين من النهار. فقال له عليّ : ولم؟ قال له : إنك إن سرت في هذه الساعة أصابك وأصاب أصحابك بلاء وضر شديد ، وإن سرت في الساعة التي أمرتك بها ظهرت وظفرت وأصبت ما طلبت ، فقال عليّ : ما كان لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم منجم ولا لنا من بعده ، ثم قال : فمن صدقك في هذا القول لم آمن عليه أن يكون اتخذ من دون الله ندّا أو ضدّا ، اللهمّ لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ، ثم قال للمتكلم : نكذبك ونخالفك ونسير في الساعة التي تنهانا عنها ، ثم أقبل على الناس فقال : يا أيها الناس إياكم وتعلم النجوم إلا ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر إنما المنجم كالكافر ، والكافر في النار ، والمنجم كالساحر والساحر في النار ، والله لئن بلغني أنك تنظر في النجوم أو تعمل بها لأخلدنك في الحبس ما بقيت وبقيت ، ولأحرمنك العطاء ما كان لي سلطان. ثم سافر في الساعة التي نهاه عنها فلقي القوم فقتلهم وهي وقعة النهروان الثابتة في صحيح مسلم ثم قال : «لو سرنا في الساعة التي أمرنا بها وظفرنا وظهرنا لقال : إنما كان ذلك بتنجيمي ، وما لمحمد منجم وما لنا بعده ، وقد فتح الله تعالى علينا بلاد كسرى وقيصر وسائر البلدان ، ثم قال : يا أيها الناس توكلوا على الله وثقوا به فإنه يكفي عمن سواه».

(فَإِنَّهُ) أي : الله سبحانه يظهر ذلك الرسول على ما يريد من ذلك الغيب ، وذلك أنه إذا أراد إظهاره عليه (يَسْلُكُ) أي : يدخل إدخال السلك في الجوهرة في تقوّمه ونفوذه من غير أدنى تعويج إلى غير المراد (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) أي : الجهة التي يعلمها ذلك الرسول (وَمِنْ خَلْفِهِ) أي : الجهة التي تغيب عن علمه ، فصار ذلك كناية عن كل جهة. قال البقاعي : ويمكن أن يكون ذكر الجهتين دلالة على الكل ، وخصهما لأنّ العدو متى أعريت واحدة منهما أتى منها ، ومتى حفظتا لم يأت من غيرهما لأنه يصير بين الأوّلين والآخرين (رَصَداً) أي : حرسا من جنوده يحرسونه ويحفظونه من الشياطين أن يسترقوا السمع من الملائكة ويحفظونه من الجنّ أن يسمعوا الوحي فيلقوه إلى الكهنة قبل الرسول ، فيطردونهم عنه ويعصمونه من وساوسهم حتى يبلغ ما يوحى إليه.

وقال مقاتل وغيره : كان الله إذا بعث رسولا أتاه إبليس في صورة ملك بخبر ، فبعث الله تعالى من بين يديه ومن خلفه رصدا من الملائكة يحرسونه ويطردون الشياطين ، فإذا جاءه شيطان في صورة ملك أخبروه بأنه شيطان فاحذره ، وإذا جاءه ملك قالوا له : هذا رسول ربك. وعن

__________________

(١) البيتان لم أجدهما في المصادر والمراجع التي بين يدي.

٤٥٥

الضحاك : ما بعث نبي إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين أن يتشبهوا بصورة الملك.

(لِيَعْلَمَ) أي : الله علم ظهور كقوله تعالى : (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ) [محمد : ٣١](أَنْ) مخففة من الثقيلة ، أي أنه (قَدْ أَبْلَغُوا) أي : الرسل (رِسالاتِ رَبِّهِمْ) وحد أوّلا على اللفظ في قوله تعالى (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) ثم جمع على المعنى كقوله تعالى : (فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها) [التوبة : ٦٣] ، والمعنى ليبلغوا رسالات ربهم كما هي محروسة من الزيادة والنقصان. وقيل : ليعلم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن جبريل قد بلغ رسالات ربه. وقيل : ليعلم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّ الرسل قد بلغوا رسالات ربهم.

(وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ) أي : بما عند الرسل من الحكم والشرائع لا يفوته منها شيء ولا ينسى منها حرفا ، فهو مهيمن عليها حافظ لها (وَأَحْصى) أي : الله سبحانه وتعالى (كُلَّ شَيْءٍ) أي : من القطر والرمل وورق الأشجار وزبد البحر وغير ذلك (عَدَداً) ولو على أقل المقادير الذرّ فيما لم يزل وفيما لا يزال فكيف لا يحيط بما عند الرسل من وحيه وكلامه؟ وقال ابن جبير رضي الله عنه : ليعلم الرسل أنّ ربهم قد أحاط بما لديهم فيبلغوا رسالاته.

تنبيه : هذه الآية تدل على أنه تعالى عالم بالجزئيات وبجميع الموجودات.

و (عَدَداً) يجوز أن يكون تمييزا منقولا من المفعول به ، والأصل أحصى عدد كل شيء كقوله تعالى : (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) [القمر : ١٢] أي : عيون الأرض ، وأن يكون منصوبا على الحال ، أي : وضبط كل شيء معدودا محصورا وأن يكون مصدرا في معنى الإحصاء.

وقول البيضاوي تبعا للزمخشري : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ سورة الجنّ كان له بعدد كل جني صدّق محمدا وكذب به عتق رقبة» (١) حديث موضوع.

__________________

(١) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٦٣٥.

٤٥٦

سورة المزمل

مكية ، في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : إلا آيتين منها (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) والتي تليها ذكره الماوردي ، وقال الثعلبي : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ) إلى آخر السورة فإنه نزل بالمدينة.

وهي تسع عشرة أو عشرون آية ، ومائتان وخمس وثمانون كلمة ، وثمانمائة وثمانية وثلاثون حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) الذي من توكل عليه كفاه في جميع الأحوال (الرَّحْمنِ) الذي عمّ بنعمة الإيجاد المهتدي والضال (الرَّحِيمِ) الذي خص حزبه بالسداد في الأفعال والأقوال. وقوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (٧) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (٨) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (٩))

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) أصله : المتزمل فأدغمت التاء في الزاي ، يقال : ازمّل يتزمّل تزمّلا ، فإذا أريد الإدغام اجتلبت همزة الوصل ، وهذا الخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفيه ثلاثة أقوال : الأول : قال عكرمة : يا أيها المزمّل بالنبوّة والملتزم للرسالة ، وعنه : يا أيها الذي أزمل هذا الأمر ، أي : حمله ثم فتر. والثاني : قال ابن عباس رضي الله عنهما : يا أيها المزمّل بالقرآن. والثالث : قال قتادة رضي الله عنه : يا أيها المزمّل بثيابه. قال النخعي : كان متزملا بقطيفة عائشة بمرط طوله أربعة عشر ذراعا قالت عائشة رضي الله عنها : «كان نصفه عليّ وأنا نائمة ونصفه على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يصلي والله ما كان خزا ولا قزا ولا مرعزى ولا إبريسما ولا صوفا كان سداه شعرا ولحمته وبرا» (١). ذكره الثعلبي ، ولحمة الثوب بفتح اللام وضمها والفتح أفصح ولحمة النسب كذلك والضم أفصح ولحمة البازي بالضم لا غير لأنها كاللقمة.

قال القرطبي : وهذا القول من عائشة رضي الله عنها يدل على أنّ السورة مدنية ، فإن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يبن بها إلا بالمدينة ، والقول بأنها مكية لا يصح. وقال الضحاك : تزمل لمنامه وقيل : بلغه

__________________

(١) انظر القرطبي في تفسيره ١٢ / ١٢٧.

٤٥٧

من المشركين قول سوء فيه فاشتدّ عليه فتزمل وتدثر ، فنزلت : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) و (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) [المدثر : ١].

وقيل : كان هذا في ابتداء ما أوحي إليه «فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما جاءه الوحي في غار حراء رجع إلى خديجة رضي الله عنها زوجته يرجف فؤاده ، فقال : زملوني زملوني لقد خشيت على نفسي» (١) أي : أن يكون هذا مبادئ شعر أو كهانة ، وكل ذلك من الشيطان أو أن يكون الذي ظهر له بالوحي ليس الملك ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبغض الشعر والكهانة غاية البغضة ، فقالت له ، وكانت وزيرة صدق رضي الله تعالى عنها : كلا والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق» (٢). ونحو هذا من الكمال الذي يثبت.

وقيل : إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان نائما في الليل متزملا في قطيفة ، فنبه ونودي بما يهجن تلك الحالة التي كان عليها من التزمل في قطيفته ، فقيل له (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) (قُمِ اللَّيْلَ) أي : الذي هو وقت الخلوة والخفية والستر ، فصل لنا في كل ليلة من هذا الجنس ، وقف بين يدينا بالمناجاة والأنس بما أنزل عليك من كلامنا ، فإنا نريد إظهارك وإعلاء قدرك في البرّ والبحر والسرّ والجهر ، وقيام الليل في الشرع معناه الصلاة فلذا لم يقيده وهي جامعة لأنواع الأعمال الظاهرة والباطنة وهي عمادها فذكرها دال على ما عداها.

ولما كان للبدن حظ في الراحة قال تعالى مستثنيا من الليل (إِلَّا قَلِيلاً) أي : من كل ليلة ، فإن الاشتغال بالنوم فعل من لا يهمه أمر ولا يعنيه شأن ألا ترى إلى قول ذي الرمة (٣) :

وكائن تخطت ناقتي من مفازة

ومن نائم عن نيلها متزمل

يريد الكسلان المتقاعس الذي لا ينهض في معاظم الأمور وكفايات الخطوب ولا يحمّل نفسه المشاق والمتاعب ونحوه (٤) :

سهدا إذا ما نام ليل الهوجل

__________________

(١) روي الحديث بطرق وأسانيد متعددة ، انظر البخاري في بدء الوحي حديث ٣ ، ٤ ، والتعبير باب ١ ، وتفسير سورة ٩٦ باب ١ ، ٣ ، ومسلم في الإيمان حديث ٢٥٢ ، ٢٥٥ ، وأحمد في المسند ٣ / ٣٢٥ ، ٣٧٧ ، ٦ / ٢٢٣ ، ٢٣٣.

(٢) انظر الحاشية السابقة.

(٣) يروى عجز البيت بلفظ :

إليك ومن أحواش ماء مسدّم

والبيت من الطويل ، وهو لذي الرمة في ديوانه ص ١١٧٥ ، ولسان العرب (صيص) ، (سدم) ، وتاج العروس (صيص) ، (سدم) ، وفي رواية أخرى للعجز :

وكم زلّ عنها من جحاف المقادر

والبيت لذي الرمة في ديوانه ص ١٦٨٤ ، ولسان العرب (جحف) ، وتهذيب اللغة ١٤ / ٧ ، ١٠ ، وكتاب الجيم ١ / ١٢٦.

(٤) صدره :

فأتت به حوش الفؤاد مبطّنا

والبيت من الكامل ، وهو لأبي كبير الهذلي في جمهرة اللغة ص ٣٦٠ ، وشرح أشعار الهذليين ٣ / ١٠٧٣ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٨٨ ، والشعر والشعراء ٢ / ٦٧٥.

٤٥٨

ومن أمثالهم (١) :

أوردها سعد وسعد مشتمل

ما هكذا تورد يا سعد الإبل

فذمه بالاشتمال بكسائه وجعل ذلك خلاف الجلد والكيس ، وأمر بأن يختار على الهجود التجهد ، وعلى التزمل التشمر والتخفف للعبادة والمجاهدة في الله لا جرم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد تشمر لذلك مع أصحابه حق التشمر وأقبلوا على إحياء ليلهم ورفضوا له الرقاد والدعة ، وتجاهدوا فيه حتى انتفخت أقدامهم واصفرّت ألوانهم وظهرت السيما في وجوههم وتراقى أمرهم إلى حدّ رحمهم له ربهم فخفف عنهم ، وقال الكلبي : إنما تزمّل صلى‌الله‌عليه‌وسلم بثيابه ليتهيأ للصلاة ، وهو اختيار الفرّاء فهو على هذا ليس بتهجين بل هو ثناء عليه وتحسين لحاله التي كان عليها وأمر بأن يدوم على ذلك ويواظب عليه ، وعن عكرمة رضي الله عنه أنّ المعنى يا أيها الذي زمل أمرا عظيما أي حمله ، والزمل الحمل.

قال البغوي : قال الحكماء : كان هذا الخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أوّل الوحي قبل تبليغ الرسالة ، ثم خوطب بعد بالنبيّ والرسول ، وقال السهيلي : ليس المزمل من أسماء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما ذهب إليه بعض الناس ، وعدّوه في أسمائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما المزمل اسم مشتق من حاله التي كان عليها حين الخطاب ، وكذلك المدّثر.

وفي خطابه بهذا الاسم فائدتان :

إحداهما : الملاطفة فإنّ العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب وترك المعاتبة سموه باسم مشتق من حالته التي هو عليها كقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعليّ حين غاضب فاطمة رضي الله تعالى عنهما فأتاه وهو نائم وقد لصق بجنبه التراب ، فقال له : قم أبا تراب» (٢) إشعارا له بأنه غير عاتب عليه وملاطفة له ، وكذلك «قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحذيفة : قم يا نومان» (٣) وكان نائما ملاطفة له وإشعارا بترك العتب والتأنيب ، فقول الله تعالى لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ) فيه تأنيس له وملاطفة ليستشعر أنه غير عاتب عليه.

والفائدة الثانية : التنبيه لكل متزمل راقد ليله أن يتنبه إلى قيام الليل وذكر الله تعالى فيه ؛ لأنّ الاسم المشتق من الفعل يشترك فيه مع المخاطب كل من عمل ذلك العمل واتصف بتلك الصفة ، والليل مدّة من غروب الشمس إلى طلوع الفجر. قال القرطبي : واختلف هل كان قيامه فرضا أو نفلا؟ والدلائل تقوّي أنّ قيامه كان فرضا ؛ لأنّ المندوب لا يقع على بعض الليل دون بعض ، لأنّ قيامه ليس مخصوصا بوقت دون وقت.

واختلف هل كان فرضا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده؟ أو عليه وعلى من كان قبله من الأنبياء؟ أو عليه وعلى أمته؟ على ثلاثة أقوال : الأوّل قول سعيد بن جبير رضي الله عنه لتوجه الخطاب إليه.

__________________

(١) الرجز للنوار (زوجة مالك بن زيد مناة) في لسان العرب (خنظل) ولمالك بن زيد مناة في جمهرة الأمثال ١ / ٩٣ ، وفصل المقال ص ٣٤٧ ، ومجمع الأمثال ٢ / ٣٦٤ ، ولعلي بن أبي طالب في مجمع الأمثال ١ / ٤٠٦ ، وبلا نسبة في المستقصى ١ / ٤٣٠.

(٢) أخرجه بنحوه البخاري في المناقب حديث ٣٧٠٣ ، ومسلم في فضائل الصحابة حديث ٣٨.

(٣) أخرجه مسلم في الجهاد حديث ٩٩ (١٧٨٨) ، والبيهقي في السنن الكبرى ٩ / ١١٩.

٤٥٩

الثاني : قول ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان قيام الليل فريضة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأنبياء قبله. والثالث : قول عائشة وابن عباس رضي الله عنهم أيضا أنه كان فرضا عليه وعلى أمته لما روى مسلم أنّ هشام بن عامر قال لعائشة رضي الله عنها : أنبئيني عن قيام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : «ألست تقرأ يا أيها المزمل ، فقلت : بلى. فقالت : فإنّ الله عزوجل افترض قيام الليل في أوّل هذه السورة ، فقام نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه حولا وأمسك الله عزوجل خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء حتى أنزل الله عزوجل في آخر هذه السورة التخفيف ، فصار قيام الليل تطوّعا بعد فريضة» (١) وقيل : عسر عليهم تمييز القدر الواجب ، فقاموا الليل كله ، وشق عليهم فنسخ بقوله تعالى آخرها : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) وكان بين الوجوب ونسخه سنة ، وقيل : نسخ التقدير بمكة وبقي التهجد حتى نسخ بالمدينة.

وروى وكيع ويعلى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما نزلت (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) كانوا يقومون نحوا من قيامهم في شهر رمضان حتى نزل آخرها وكان بين نزول أوّلها وآخرها نحوا من سنة. وقال سعيد بن جبير رضي الله عنه : مكث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه عشر سنين يقومون الليل ، فنزلت بعد عشر سنين (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ) [المزمل : ٢٠] فخفف الله تعالى عنهم. وقيل : كان قيام الليل واجبا ثم نسخ بالصلوات الخمس.

والصحيح أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث يوم الاثنين في رمضان وهو ابن أربعين سنة ، وقيل : ثلاث وأربعين وآمنت به خديجة رضي الله عنها ثم بعدها قيل : عليّ رضي الله عنه وهو ابن تسع سنين ، وقيل : ابن عشر. وقيل : أبو بكر ، وقيل : زيد بن حارثة ، ثم أمر بتبليغ قومه بعد ثلاث من مبعثه ، فأوّل ما فرض عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد الإنذار والدعاء إلى التوحيد من قيام الليل ما ذكر في أوّل السورة ، ثم نسخ بما في آخرها ثم نسخ بإيجاب الصلوات الخمس ليلة الإسراء إلى بيت المقدس بمكة بعد النبوة بعشر سنين وثلاثة أشهر ليلة سبع وعشرين من رجب ، هذا ما ذكره النووي في روضته.

وقال في فتاويه : بعد النبوة بخمس أو ست وجعل الليلة من ربيع الأول وخالفهما في شرح مسلم وجزم بأنها من ربيع الآخر وقلد فيها القاضي عياضا ، والذي عليه الأكثر ما في الروضة واستمرّ يصلي إلى بيت المقدس مدّة إقامته بمكة وبعد الهجرة ستة عشر شهرا أو سبعة عشر ، ثم أمر باستقبال الكعبة ، ثم فرض الصوم بعد الهجرة بسنتين تقريبا وفرضت الزكاة بعد الصوم ، وقيل : قبله ، وفي السنة الثانية قيل : في نصف شعبان. وقيل : في رجب حوّلت القبلة ، وفيها فرضت صدقة الفطر ، وفيها ابتدأ صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة عيد الفطر ثم عيد الأضحى ، ثم فرض الحج سنة ست وقيل : سنة خمس ولم يحج صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد الهجرة إلا حجة الوداع ، واعتمر أربعا وتوفيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الاثنين لاثنتي عشرة خلت من شهر ربيع الأوّل سنة إحدى عشرة من الهجرة.

فائدة : الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كلهم معصومون قبل النبوة من الكفر وفي المعاصي خلاف وبعدها من الكبائر وكذا من الصغائر ولو سهوا عند المحققين.

وقوله تعالى (نِصْفَهُ) بدل من قليلا وقلته بالنظر إلى الكل (أَوِ انْقُصْ مِنْهُ) أي : من النصف (قَلِيلاً) أي : الثلث (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) أي : على النصف إلى الثلثين ، وأو للتخيير فكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخيرا بين

__________________

(١) أخرجه مسلم في قيام الليل حديث ٧٤٦.

٤٦٠